ما الذي يدفع صحافيًا للتخلي عن قضايا الساعة الساخنة، والغوص في ملفات تبدو للبعض «هامشية» كقضايا البيئة؟ وكيف يمكن لهذا الاختيار أن يتحول إلى التزام طويل الأمد، ومواجهة مفتوحة مع أصحاب النفوذ والمصالح؟
في بلدٍ تتراكم فيه الكوارث البيئية كما تتراكم النفايات على جوانب الطرقات، يصبح العمل الصحافي البيئي مغامرة حقيقية، تتطلب شجاعة فكرية واستقلالية نادرة؛ وفي قلب هذه المغامرة، يبرز اسم الكاتب والصحافي البيئي حبيب معلوف، كأحد الذين قرروا كسر الصمت.
في هذا الحوار، يكشف معلوف عن الدوافع التي قادته إلى هذا المسار، ويتحدث عن العقبات التي تعيق تطور الصحافة البيئية في لبنان، كما يعرض تصوره لمستقبلها، محليًا وعربيًا، في ظل تعقيدات التمويل، وغلبة المصالح، وتحولات الإعلام المعاصر.
من الفلسفة إلى الصحافة البيئية
بدايةً، ما الذي دفعك لإختيار الصحافة البيئية؟
بعض المشاكل التي شهدتها قريتي كانت الدافع الأساسي. حينها، كانوا يعملون على إنشاء كسارة ومقلع، فبدأنا نتصدى لهم، ومن كسارة إلى أخرى، أصبح إهتمامي يشمل مختلف قضايا البيئة. كان ذلك في أواخر الثمانينيات. في تلك الفترة، كنت أتخصص في الفلسفة، وبدأت أبحث في فلسفة البيئة، وحوّلت كل اهتمامي الفلسفي إلى القضايا البيئية، ونتيجة لذلك، أصدرت أول كتاب في المنطقة العربية عن فلسفة البيئة.
ما الذي يُميز الصحافة البيئية عن غيرها أنواع الصحافة؟
الصحافة البيئية متخصصة وتستند إلى العلم . اليوم، تبدأ المعالجة بالمعطيات العلمية حول قضايا البيئة وتحاول ترجمتها في العمل الصحافي. بالإضافة إلى التخصص العلمي، من الضروري أن يدرس الصحافي البيئي فلسفة البيئة ليكون لديه خلفية فكرية وفلسفية، لأن البيئة قضية كبرى، متعلقة بخياراتنا الأساسية في الحياة وبنظرتنا لعلاقتنا مع الآخر ومع الكون.
لهذا السبب، أرى أن الصحافة البيئية تفتقر إلى البعد الفلسفي تظل مجرد صحافة عادية، وقد تنافسها وسائل التواصل الجديدة والذكاء الاصطناعي بسهولة. الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل الأرقام وجمع البيانات أكثر من كل البشرية، لكن “تحليل التحليل” هو ما تميّز به الصحافة البيئية المتخصصة، خصوصاً عندما يكون لدى الصحافي خلفية فلسفية تتيح له تقديم شيء جديد وتقييم الأمور بشكل مختلف.
تحديات الصحافة البيئية في لبنان: بين التعتيم والتمويل
في ظل الأزمات البيئية المتعددة، هل ترى أن الصحافة البيئية تحظى بالاهتمام الكافي من وسائل الإعلام والجمهور؟
قطعاً لا. السبب الجوهري لهذا الغياب أن وسائل الإعلام التقليدية بمعظمها ممولة من الإعلانات، أي أنها خاضعة مباشرة لقوى السوق المسيطرة. هذه القوى تسيطر على الموارد الطبيعية وتستغلها لتحقيق أرباحها وتعزيز نفوذها الاقتصادي، وبالتالي هي من تتحكم بالقرار الإعلامي.
سوء تعامل الإنسان عمومًا، والشركات الكبرى تحديدًا، مع الموارد البيئية هو الذي أفضى إلى نشوء الأزمات البيئية التي نعيشها اليوم. من هنا، فإن العمل الإعلامي التقليدي، خاصة عبر المنصات الكبرى الخاضعة لمصالح الممولين، يجعل مهمة الصحافي البيئي شبه مستحيلة، ولا يبقى أمام الصحافة البيئية الحقيقية سوى البحث عن أطر بديلة ومستقلة خارج سلطة السوق واقتصاداته، حتى تتمكن من القيام بدورها في كشف الحقائق والدفاع عن القضايا البيئية بموضوعية وجرأة.
هل تعتبر أن الصحافة البيئية في لبنان تواكب فعلاً حجم الأزمات البيئية، أم أنها مجرد تغطيات موسمية؟
شهدنا في الصحافة البيئية في لبنان تراجعًا واضحًا في السنوات الأخيرة. في السابق كان هناك صحف كبرى مثل “النهار” و”السفير” لديها صفحات متخصصة بالبيئة، أما اليوم فقد اختفت هذه الصفحات تقريبًا، ولا توجد برامج متخصصة بالبيئة، حتى التحقيقات البيئية أصبحت قليلة جدًا، خصوصًا بعد الحروب الأخيرة، وهذا تراجع دراماتيكي للأسف.
الصحافي البيئي تحت الضغط: السوق والإقصاء
ما أبرز العقبات التي تواجه الصحافي البيئي في لبنان؟ وهل سبق أن واجهتَ إحدى هذه العقبات؟
من أبرز العقبات أن السوق الإعلامي خاضع لهيمنة قوى السلطة واقتصاد السوق، ما يشكل عائقًا بنيويًا حقيقيًا. يصعب تمرير المواضيع البيئية في وسائل الإعلام التقليدية، خاصة أن أولويات هذه المؤسسات عادة ما تتركز على القضايا السياسية والاقتصادية المرتبطة بمصادر التمويل والنفوذ.
العائق الثاني هو غياب الاهتمام الجاد من قبل مسؤولي التحرير بالقضايا البيئية، وعدم منحها المساحة اللازمة في الأجندة الإعلامية. الصحافي البيئي يجد نفسه أمام هامش محدود من الحرية والتأثير، ما لم يبادر إلى خلق منصّات إعلامية بديلة مستقلة.
وإذا كان الصحافي مستقلاً، هل يمكن أن يواجه عقبات أيضاً؟
الاستقلال لا يعني بالضرورة التحرّر من العقبات بل قد تصبح المواجهة أكثر تعقيدًا. فالصحافي المستقل عليه أن يفرض نفسه وموضوعه بقوة، وأن يتحلّى بمستوى عالٍ من الثقافة والمهارات، كما عليه أن يتحمّل الكثير من التضحيات في سبيل الاستمرارية والمصداقية. في الواقع، الاستقلال في هذا المجال يتطلب شجاعة ومثابرة، وقدرة على الصمود في “سوق” لا يعترف بالبيئة كأولوية.
من أبرز التحديات التي قد تواجه الصحافي المستقل هي تدخل الجهات الملوِّثة نفسها، والتي غالبًا ما تكون محاطة بجيوش من المروّجين والمدافعين عن مصالحها. هؤلاء قد يعمدون إلى عرقلة عمل الصحافي، سواء بمنعه من التصوير، أو التضييق عليه ميدانيًا، أو ممارسة ضغوط مباشرة على الوسيلة الإعلامية التي ينتمي إليها.
وفي غياب دعم مالي مستقل من السهل أن يتم إسكات أي وسيلة إعلامية من خلال قطع التمويل عنها، خصوصًا وأن معظم التمويل الإعلامي في لبنان مرتبط بمصادر نافذة، بعضها مساهم في تلويث البيئة.
ولعلّ المفارقة الأكبر أن الشركات أو الجهات الأكثر تلويثًا للبيئة، هي نفسها التي تنفق بسخاء على الإعلام، ليس من باب المسؤولية البيئية، بل من أجل ما يُعرف بـ”الغسيل الأخضر”.
الغسيل الأخضر ودور الإعلام
بما أنك ذكرتَ مصطلح “الغسيل الأخضر”، هل يمكنك شرح هذه الظاهرة؟
“الغسيل الأخضر” هو محاولات الشركات والمؤسسات الملوِّثة تحسين صورتها البيئية عبر الإعلام والدعاية. غالبًا ما تقوم بها شركات كبرى تواجه اعتراضات شعبية نتيجة أثرها السلبي على البيئة، خصوصًا في المناطق السكنية أو الزراعية. فتسعى هذه الشركات إلى التغطية على الأضرار البيئية عبر تمويل جمعيات أو منصّات إعلامية، أو عبر حملات دعائية تركز على خطوات تجميلية مثل “زرع الأشجار” أو “تركيب فلاتر”، بينما يتم تجاهل الأثر البيئي الأكبر لنشاطاتها.
الإعلام هنا يتحول إلى وسيلة تلميع بدل أن يكون سلطة رقابية، ولهذا يجب أن يتحصّن الصحافي البيئي باستقلاليته الفكرية والأخلاقية وأن يكون واعيًا لخطورة الإغراءات المالية والشهرة والمناصب.
تغير المناخ :التهديد البيئي الأكبر
ما هي أكبر قضية بيئية تشغل بالك اليوم؟
أكبر قضية تواجه البشرية اليوم برأيي هي تغير المناخ، فهي الأخطر والأشمل من حيث الظواهر التي تنتج عنها. نحن نتحدث عن تطرف في كل شيء: فيضانات متزايدة، أعاصير أشد قوة، ارتفاع غير مسبوق في درجات حرارة الأرض، جفاف متزايد، وارتفاع مستوى البحار نتيجة ذوبان الجليد. كل هذه التغيرات قد تؤدي إلى اختفاء جزر ومدن ساحلية كاملة، بالإضافة إلى موجات نزوح جماعية وأمراض جديدة مرتبطة بتغير المناخ.
هل هناك حل؟ هل لا يزال هناك أمل في مواجهة هذا الخطر؟
من خلال متابعتي لقضية تغير المناخ لثلاثين عامًا، وحضوري المتواصل للمفاوضات الدولية، أرى أن الدول تتجه في الاتجاه المعاكس بدل التقدم نحو الحلول. بعد الحرب الروسية الأوكرانية، عادت أوروبا لاستخدام الفحم الحجري، الأكثر تلويثًا، وبدأ الحديث عن الطاقة النووية من جديد رغم أخطارها.
العالم يسير نحو خيارات أصعب بدل الانتقال إلى أنظمة أكثر استدامة. نحن في حالة تراجع مستمر، وهذا يهدد بأننا نتجه نحو نقاط اللاعودة.
الصحافة البيئية عربيًا: إعلام بلا بيئة؟
كيف ترى مستقبل الصحافة البيئية في العالم العربي؟
في بعض الدول العربية، وخاصة في الخليج، هناك اهتمام متزايد بالصحافة البيئية بفضل وجود تمويل ضخم، لكن هذا الاهتمام غالبًا ما يكون شكليًا في دول يعتمد اقتصادها على النفط، وهو من أكثر مصادر التلوث للمناخ. في العمق، غالبًا ما يكون الحضور الإعلامي مجرد واجهة للتغطية على المشاكل البيئية الحقيقية. إن مستقبل الصحافة البيئية في العالم العربي مرهون بتحقيق استقلالية حقيقية عن مصادر التمويل التقليدية، وإلا ستبقى وسائل الإعلام البيئي مجرد أدوات لتجميل الواقع.
الإلتزام البيئي بين الفكر والممارسة
ما هي الرسالة التي توجهها لمتابعي موقع “خطّ أخضر “، ولكل من يهتم بالبيئة والعدالة البيئية؟
القضية البيئية إذا لم تكن نابعة من قناعة حقيقية، تتحول إلى “غسيل أخضر” بدل أن تكون التزامًا فعليًا. من يريد أن يكون صادقًا في العمل البيئي عليه أن يتوقع أن يكون وحيدًا أحيانًا، وأن يواجه صعوبات كبيرة من دون دعم شعبي، فالثقافة السائدة اليوم استهلاكية، والمجتمع أصبح عاجزًا عن التغيير بعد كل ما مرّ به من أزمات.
الناس اليوم منشغلون بهموم الأمن والاقتصاد، وتغيرت أولوياتهم. في ظروف الحرب والانهيار الاقتصادي، يصبح من الصعب جدًا طرح القضايا البيئية كأولوية، حتى جمعيات المجتمع المدني فقدت استقلاليتها وأصبح دورها هامشيًا، بينما الجوهر البيئي يتعلق بجودة الهواء والمياه والتربة والغذاء.
رسالتي لكل من يهتم بالبيئة: الطريق صعب لكنه ضروري. الدفاع عن البيئة هو دفاع عن أسس الحياة وحق الإنسان في العيش الكريم.
لو طلبنا منك وضع خارطة طريق لإنقاذ الصحافة البيئية في لبنان، ما أبرز الخطوات التي يجب اتخاذها؟
هذا الأمر يحتاج إلى الكثير من التفكير. يمكن الاستفادة من الخطة التي كانت تعتمدها الأحزاب الأيديولوجية سابقًا، إذ كانوا ينظمون دورات تثقيفية تتيح للمشاركين الاطلاع على الخلفية الفكرية للمسألة: لماذا وصلنا إلى هذا الواقع؟ ما هي أبرز المشكلات؟ وما هي الرؤية للمستقبل؟
هذه الأسئلة تولّدها الفلسفة، مهمتها الأساسية تحليل جذور المشكلات وابتكار مفاهيم جديدة قادرة على الإنقاذ، بعدها يأتي دور الإعلامي؛ فإذا لم يكن لديه خلفية فلسفية حول أسباب الأزمات وأفكار الحلول الجديدة، يبقى عمله الإعلامي محدود الأثر، أما عندما يمتلك هذه الخلفية، يصبح قادرًا على تبني هذه المفاهيم والترويج لها بفعالية من خلال نشاطه الإعلامي.
لذلك أرى أن البداية يجب أن تكون من بناء هذه القاعدة الفكرية والفلسفية، ثم يأتي دور الإعلامي في نقل هذا العمق الفكري إلى المجتمع، ليصبح الإعلام أداة حقيقية للتغيير في القضايا البيئية.