مع بداية صيف 2025، عادت أزمة تلوّث البحر لتتصدّر المشهد في لبنان، بعد صدور تقارير المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) التي أظهرت أن نحو ثلث الشواطئ بات غير صالح للسباحة، أو تحت التحذير، بسبب تلوّث مياه البحر بالصرف الصحي والنفايات. وبينما تصدّر هذا الواقع العناوين لأيام قليلة، سرعان ما عاد إلى الهامش، ليبقى التلوّث البحري جزءًا من مشهد الإهمال المزمن في لبنان
كم كارثة بيئية يجب أن تمرّ علينا قبل أن يتوقف الجميع عن تجاهلها؟ كم مرة شاهدنا نهراً أسود أو غابة محترقة، ثم قلبنا الصفحة وكأن شيئًا لم يكن؟
تمرّ أخبار التلوّث والكوارث البيئية على اللبنانيين كما تمرُّ سحابة صيف، ضجة سريعة في وسائل الإعلام والتواصل، ثم عودة فورية للحديث عن الأسعار والكهرباء وهموم المعيشة اليومية. غالبًا ما تُقابل قضايا البيئة بجمل مقتضبة مثل: “مين بالو بالبيئة؟ وين عايشة إنت؟ ليبقى الملف البيئي مجرد خبر عابر أو مساحة للجدل على مواقع التواصل، سرعان ما تختفي.
اللامبالاة الجماعية

من تلوّث البحر بالصرف الصحي إلى أزمة المياه والنفايات التي ملأت الشوارع، شهد لبنان في السنوات الأخيرة أزمات بيئية كبرى، إلا أن حضور هذه القضايا بقي محدوداً وسريع الزوال. مع كل كارثة، يطفو الإهتمام ليومين ثم يغيب تماماً بمجرد تصاعد الأزمات الإقتصادية والسياسية. هكذا، ومع مرور الوقت، يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة، وتصبح الكارثة البيئية مشهدًا معتادًا لا يثير الغضب أو الخوف، بل يدفع الناس تدريجيًا نحو اللامبالاة، أو حتى العجز عن المطالبة.
والأخطر، أن اعتياد الكارثة هذا يجعل كل أزمة جديدة أقل وقعاً من سابقتها، ويزرع شعوراً عامًا بالتسليم أو اللامبالاة.
Image Courtesy of CEWAS
الثمن الباهظ
لا تمر هذه الحلقة من التجاهل بلا عواقب. آثار التراكم البيئي تلاحقنا يوميًا: جودة مياه الشرب، ازدياد الأمراض، تدهور مواسم الزراعة، وارتفاع كلفة العلاج عامًا بعد عام، بهذا يتحوّل الملف البيئي من مسؤولية عامة إلى عبء ثقيل على كل عائلة، فيما تبقى السياسات في دائرة ردّ الفعل المتأخر وإدارة الأزمات بلا حلول واضحة.
بحسب تقرير المخاطر العالمية 2024 للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي صدر مطلع العام الماضي، اختار نحو 66% من المشاركين “الطقس المتطرّف” كأخطر تهديد عالمي خلال عام 2024، فيما صنّفت المخاطر البيئية مثل تلوّث المياه، فقدان التنوّع الحيوي، والتغييرات الحرجة في أنظمة الأرض ضمن أبرز خمسة مخاطر طويلة الأمد.
ومع دخولنا عام 2025، لا تزال هذه المخاطر تتفاقم في لبنان والمنطقة، في ظل غياب حلول جذرية وتزايد الكلفة على الناس والبيئة معًا.
الإعلام يكتفي بتغطية الحدث العابر، وتبقى التحذيرات العلمية وأصوات المختصين مجرد خلفية صامتة في الزحام اليومي، لتستمر الحلقة نفسها: كارثة، تجاهل، اعتياد، ثم كارثة جديدة أكبر.
يبقى السؤال:
إلى متى تبقى البيئة مجرد خبر عابر؟ ومتى يدرك الجميع أن تجاهلها اليوم يعني دفع ثمن أغلى غدًا؟ فكل صمت اليوم هو دين مستحق سيدفعه الجميع غداً، حتى يصبح الإنقاذ أصعب بكثير من تدارك الأزمة في بدايتها.



