عامًا بعد عام، تخفت أصوات النحل في الحقول اللبنانية، لتصبحَ الحقول أقل حياةً وأقل قدرة على العطاء.
خلف وفرة العسل على رفوف المتاجر وغياب بعض الفواكه من الأسواق، يضعف النحل تدريجيًا بسبب تدخل الإنسان في دورة حياته، لاسيما عبر استيراد الملكات والإنتقاء الجيني، بالإضافة إلى تغيّر موطنه الطبيعي.
ويؤكد مربّو النحل أنّ المواسم الأخيرة كانت الأصعب منذ عقود.
يقول مربي النحل سلمان عودة: “إنتاج العسل تراجع بشكل غير مسبوق في العامين الأخيرين بسبب التقلبات المناخية والأمراض”.
هذه التحديات مجتمعة تضعُ مستقبل غذائنا وتنوعنا البيولوجي على المحك.
تواجه تربية النحل في لبنان اليوم سلسلة من التحديات التي تهدد بقاء هذا الكائن الأساسي للنظام البيئي والغذائي.
من أبرز هذه التحديات تدخل الإنسان في دورة حياة النحل عبر الإستيراد والتعديل الوراثي والتغذية الاصطناعية.
استيراد الملكات والانتقاء الجيني: أزمة تهدد النحل في لبنان
في السنوات الأخيرة، لجأ مربو النحل في لبنان إلى استيراد ملكات أجنبية أملاً في رفع الإنتاجية أو توريث خلاياهم صفات مقاومة للأمراض المنتشرة.
لكن هذه الخطوة، التي بدت متقدمة في ظاهرها، أدخلت جينات غير متأقلمة مع البيئة اللبنانية.
يشرح الدكتور داني عبيد، خبير تربية النحل:
“استيراد الملكات بشكل عشوائي أدى إلى تراجع مناعة النحل، وزيادة احتمال نفوق الملكات وضعف الإنتاج، وارتفاع مخاطر انهيار المستعمرات(مجتمع النحل) في مواسم عديدة. مع الوقت، ضعف الجهاز المناعي الجماعي للنحل وانخفضت كفاءة التلقيح.”
تفيد دراسة منشورة في مجلة Scientific Reports عام 2020 وموقع جامعة Reading عام 2025 أن الاعتماد على الانتقاء الجيني واختيار أفراد النحل ذات الصفات المرغوبة – مثل إنتاجية العسل أو مقاومة الأمراض – واستبعاد السلالات الأقل قوة، يؤدي إلى ضعف التنوع الجيني لدى النحل المحلي، ما يضعف مناعة المستعمرات وقدرتها على التكيف مع الضغوط البيئية.
التغذية الاصطناعية وإجهاد النحل: خسائر تفوق الفوائد
لا تتوقف تدخلات الإنسان عند الجينات والاستيراد فقط، بل تمتد إلى تفاصيل تغذية النحل.
يشرح الدكتور داني عبيد:
“كثير من النحالين باتوا يعتمدون على التغذية الاصطناعية لتحفيز الملكة على وضع البيوض بكثافة في نهاية الشتاء أو بداية الربيع، أملاً بزيادة أعداد النحل قبل موسم الرحيق.”
لكن مع تغير المناخ وتأخر تفتح الأزهار أو حدوث موجات برد مفاجئة، تقع الكارثة:
“إذا تأخر موسم الأزهار أو واجهت المستعمرات بردًا مفاجئًا، يُعرّض ذلك أعدادًا كبيرة من النحل للجوع والضعف، ما يهدد بخسارة مستعمرات كاملة، النتيجة فجوة غذائية خطيرة وانهيار مناعة النحل في بعض المواسم.”
ويشدد عبيد على نقطة أساسية غالبًا ما يغفلها الناس: “العسل طعام للنحل بالدرجة الأولى.” إذ يؤدي أخذ العسل من الخلايا وتعويضه بتغذية صناعية إلى إضعاف النحل، وحرمانه من غذائه الطبيعي الضروري لبقائه وصحته.
هكذا، يخلق الإنسان فجوة بين ازدياد أعداد النحل وغياب الموارد الطبيعية، فيضع الخلايا في دائرة الإجهاد المزمن بدل النمو الطبيعي.
اختفاء النحل البري: تلقيح الطبيعة مهدّد بالزوال
الأزمة الحقيقية تتجاوز المناحل المدجّنة.
في لبنان، تسعة فقط من بين 22 ألف نوع نحل في العالم تنتج العسل، أما الباقي فهو نحل بري يعيش في الطبيعة ويلعب دورًا أساسيًا في تلقيح النباتات البرية والزراعية معًا.
يقول باسم خواند، مدرب تربية النحل:
“قبل مرض الفاروا، كان في نحل عاسل بالبرية اللبنانية. بعد انتشار المرض والمبيدات والفلاحة المكثفة، اختفت معظم الأصناف البرية أو تراجعت بشكل خطير.”

خسارة هذه الحشرات الملقحة تعني تراجع عمليات التلقيح الطبيعي، وقد يضطر الإنسان مستقبلاً للاعتماد على التلقيح الصناعي أو مواجهة ندرة الفواكه وانخفاض جودة المحاصيل وارتفاع أسعار المنتجات.
ويضيف الدكتور داني عبيد:
“النحل البري اليوم يواجه منافسة شرسة مع نحل العسل التجاري على مصادر الغذاء. أهمية النحل ليست في إنتاج العسل فقط، بل في تلقيح النباتات وحفظ التوازن البيئي، من المحاصيل إلى الأشجار البرية التي تعتمد عليها الحيوانات والحشرات.”
الأمن الغذائي في لبنان… في مهب أزمة النحل
لا يقتصر الخطر على التوازن البيئي، بل يمتد مباشرة إلى صحة الإنسان واقتصاده.
تشير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) إلى أن 75% من المحاصيل الغذائية العالمية تعتمد على التلقيح بالحشرات، خاصة النحل.
وتؤكد دراسة Science (2016) أن غياب الملقحات الطبيعية قد يخفض إنتاج بعض الفواكه والخضار بنسبة تصل إلى 50%.
في لبنان، بدأ المواطنون يلاحظون غياب بعض الثمار من الأسواق، وتراجع جودة المنتجات، وارتفاع الأسعار، وكلها نتائج مباشرة لاختفاء النحل من الحقول.
خطر النحل… أزمة تطال الجميع في لبنان
استمرار تراجع أعداد النحل يعني انهيار منظومة بيئية كاملة: من التربة والمياه إلى الأشجار والحيوانات، ويهدد الأمن الغذائي في لبنان والمنطقة بأكملها.
هذه ليست أزمة علمية أو بيئية فحسب، بل أزمة تطال كل بيت وكل طبق على كل مائدة.
كيف ننقذ النحل ونحمي غذاء لبنان؟
يحذر الخبراء من الاستمرار في سياسات استيراد الملكات غير المدروسة أو الانتقاء الجيني العشوائي.
ينادون بحماية النحل البلدي، وتنظيم نقل الخلايا وتربية النحل، ودعم البحث العلمي حول النحل الأصلي، وحماية النحل البري، وتثقيف المربين الجدد، وسنّ تشريعات تحفظ حق الأجيال في الأمن الغذائي وبيئة متوازنة.
توصي منظمة BeeLife الأوروبية بتشديد الرقابة على نقل الملكات، وتنظيم تربية النحل مع مراعاة حماية البيئة والتنوع الجيني المحلي.
في لبنان، الحاجة ملحة لحماية المواطن الطبيعية للنحل البري وسلالاته الأصلية، وكبح جماح الاستغلال المفرط الذي يهدد توازن الطبيعة.
إذا اختفى النحل… اختفى الغذاء والحياة
حين يسكت أزيز النحل وتغيب عملية التلقيح، لا يبقى سوى الأسئلة المؤلمة:
من يعوض هذا الفراغ… الإنسان أم الآلة؟
مستقبل الغذاء والتنوع البيولوجي معلق على صحة أصغر كائنات الطبيعة.
عندما يختفي النحل، تختفي الحياة. من يجرؤ على تجاهل هذا الإنذار الأخير؟