تحت وطأة صيف جديد، يواجه لبنان أزمة مياه غير مسبوقة. بعدما كان يُعرف يومًا بغزارة أنهاره وينابيعه، أصبح الحصول على المياه تحديًا يوميًا يهدّد الصحة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
معاناة اللبنانيين اليومية مع ندرة المياه وارتفاع الأسعار
لم تعد صهاريج المياه مجرد عابرة في شوارع لبنان، بل أصبحت رمزاً لأزمة تزدادُ حدة يومًا بعد يوم.
تقول سارة، موظفة وطالبة جامعية في بيروت:
“لا أستطيع النوم بسبب الضجيج المتواصل لموتورات ضخ المياه من الصهاريج إلى الخزانات.”
وفي الجنوب، تُشير فاطمة إلى أن “الاستحمام مرتين في الأسبوع صار رفاهية، ونحن نخزن المياه في براميل خوفًا من نفادها قبل نهاية الشهر.”
أما حسين، مزارع من البقاع، فيصف الواقع قائلاً: “زرعت نصفَ الأرض هذا الموسم فقط، لأن المياه لا تكفي، وحتى مياه الريّ أحيانًا ملوثة، الصهريج صار مكلفًا، والموسم أخف.”
هذه المشاهد تتكررُ في معظم المدن والقرى اللبنانية، وتُلخص المشهد بثلاثة عناوين: شح المياه، تراجع جودة المياه، إرتفاع.
الجفاف وانخفاض المتساقطات تهديد مستمر لموارد لبنان المائية
تُظهر بيانات مصلحة الأرصاد الجوية لعام ٢٠٢٥ أن لبنان يواجه انخفاضًا حادًا في معدل المتساقطات، وصل إلى 50% عن المعدلات الطبيعية، وهو تراجع غير مسبوق منذ عقود. هذا النقص الحاد لا يقتصر تأثيره على موارد المياه السطحية فحسب، بل ينعكس مباشرةً على المخزون الجوفي، ويرفع منسوب القلق حول مستقبل الأمنين المائي والغذائي في البلاد.

رسم بياني يُظهر انخفاض الأمطار في بيروت وطرابلس وزحلة منذ 2020
الجفاف اليوم يفرض واقعًا جديدًا يهدد أسس الحياة اليومية ويكشف هشاشة البنية التحتية أمام الأزمات المتراكمة.
سوء الإدارة والهدر: جذور الأزمة الحقيقية
إذا كان الجفاف جزءًا من المشكلة، فإنّ سوء الإدارة والهدر يعمقانها.
معظم الخبراء والمسؤولين يتفقون اليوم على أن الأسباب لا تقتصر على المناخ وحده.
تؤكد المهندسة منى فقيه، مديرة المياه في وزارة الطاقة والمياه:
“الهدر في شبكات التوزيع يصل إلى 50%، ومشاريع السدود تعثرت بسبب نقص التمويل والدعم السياسي، كما أن الصيانة محدودة والجباية ضعيفة.”
وتضيف أن أزمة النزوح السوري فاقمت الضغط على الشبكات، بينما زاد تلوث نهر الليطاني نتيجة تحويل مياه الصرف الصحي إليه من دون رقابة كافية.
بدوره، يوضح رمزي صليبا، رئيس مصلحة المشاريع بالتكليف، إلى أن انقطاع الكهرباء المتكرر يؤثر بشكل كبير على تشغيل المضخات ومحطات التوزيع، ما يسبب اضطرابات في توفير المياه.
ويضيف أن ملوحة المياه الجوفية ارتفعت نتيجة الاستنزاف المستمر وقلة تجدد الموارد، وأن الهدر أساساً يعود إلى تهالك الشبكات التي نعمل على صيانتها بشكل مستمر، وإلى مخالفات وسرقة المياه.
وبحسب بيان اليونيسف لعام 2021، فإن “أكثر من 71% من سكان لبنان معرضون لخطر فقدان الوصول إلى المياه بفعل انهيار شبكات الإمداد والهدر المتواصل”، ما يجعل القطاع على شفير الانهيار.
تداعيات أزمة المياه على الزراعة والصحة والأمن الغذائي في لبنان
لم تتوقف تداعيات الأزمة عند المنازل، بل إمتدت بقوة إلى الزراعة والصحة العامة.
يصف الباحث في البيئة المائية الدكتور كمال سليم الوضع المائي في لبنان بأنه “كارثي وغير مسبوق “ويشير إلى أن الأزمة ناتجة عن تراجع الأمطار وسوء الإدارة المزمن، حيث لم تُنفّذ الاستراتيجية الوطنية، والسدود غير فعالة، والشبكات تهدر نصف المياه وأكثرها ملوث. كما يوضح أن الأنهار تحولت إلى مجارٍ للصرف الصحي، واستعمال المياه الملوثة في الري يهدد الغذاء، والحلول المتاحة محدودة وبعضها مكلف.
أما الخبير البيئي حبيب معلوف فيرى أن استنزاف المياه الجوفية دون رقابة، وبناء سدود غير ملائمة، وتجاهل إصلاح الشبكات وتلوث المياه، كلها أخطاء استراتيجية عمّقت الأزمة، ويؤكد أن لبنان يسير نحو وضع خطير ما لم تتغير السياسات جذريًا.
بول أبي راشد، رئيس جمعية الأرض-لبنان، يقول أن الهدر الزراعي، الاستهلاك غير العقلاني، وتصدير المياه بشكل غير مباشر عبر الخضار، كلها تعمّق الأزمة.
هنا يلتقي الخبراء والمسؤولون على حقيقة: الأزمة في لبنان ليست مناخية فقط، بل حصيلة إخفاقات مزمنة في الإدارة، وغياب سياسات فعالة ومستدامة.
الحلول المقترحة لمواجهة شح المياه في لبنان
يرى الخبراء أن الخروج من الأزمة يستدعي استراتيجية واضحة تبدأ بتحديث البنية التحتية، إصلاح شبكات المياه، تركيب العدادات، وتفعيل الرقابة والمحاسبة، بالإضافة
الى التحوّل نحو زراعات أقل استهلاكًا للمياه، وتنظيم استخراج الموارد الجوفية بشكل عادل وشفاف.
ورغم تكرار التصريحات حول مشاريع الإصلاح والمراقبة، يبقى التنفيذ الفعلي محدوداً، لتبرز أهمية المبادرات المجتمعية. من هذه المبادرات حملة 50% التي أطلقتها جمعية الأرض-لبنان مع وزارة الطاقة والمياه، الرامية إلى ترشيد إستهلاك المياه اليومي بنسبة 50%.
ولمزيد من التفاصيل حول هذه المبادرة وتأثيرها العملي، يمكنكم مشاهدة الفيديو المرفق لرئيس الجمعية بول أبي راشد.
خاتمة: من أزمة المياه إلى أزمة الثقة
ليست أزمة المياه في لبنان أزمة موارد فحسب، بل أزمة ثقة بين الناس والدولة، وبين الواقع والإدارة. كل يوم يمرّ دون حلول جدية هو يوم آخر في طريق العطش الجماعي.
ويبقى الأمل معلقاً على إرادة التغيير الفعلي وخيارات جذرية، تُعيد للمياه مكانتها كحق وطني لا يُمس.